سورة الحجرات - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}
{إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالإصلاح، وإطلاق الأخوة على المؤمنين من باب التشبيه البليغ وشبهوا بالأخوة من حيث انتسابهم إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية، وجوز أن يكون هناك استعارة وتشبه المشاركة في الإيمانب المشاركة في أصل التوالد لأن كلًا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان، والفاء في قوله تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} للإيذان بأن الأخوة الدينية موجبة للإصلاح، ووضع الظاهر موضع الضمير مضافًا للمأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه، وقيل: المراد بالأخوين الأوس. والخزرج اللتان نزلت فيهما الآية سمي كلًا منهما أخًا لاجتماعهم في الجد الأعلى. وقرأ زيد بن ثابت. وابن مسعود. والحسن بخلاف عنه {إخوانكم} جمعًا على وزن غلمان.
وقرأ ابن سيرين {أخواتكم} جمعًا على وزن غلمة، وروى عبد الوارث عن أبي عمرو القراآت الثلاث، قال أبو الفتح: وقراءة الجمع تدل على أن قراءة الجمهور لفظها لفظ التثنية ومعناها الجماعة أي كل اثنين فصاعدًا من المسلمين اقتتلا، والإضافة لمعنى الجنس نحو لبيك وسعديك، ويغلب الاخوان في الصداقة والأخوة في النسب وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر {واتقوا الله} في كل ما تأتون وما تذرون من الأمور التي من جملتها ما أمرتم به من الإصلاح، والظاهر أن هذا عطف على {فَأَصْلِحُواْ} وقال الطيبي: هو تذييل للكلام كأنه قيل: هذا الإصلاح من جملة التقوى فإذا فعلتم التقوى دخل فيه هذا التواصل، ويجوز أن يكون عطفًا على {فَأَصْلِحُواْ} أي واصلوا بين أخويكم بالصلح واحذروا الله تعالى من أن تتهاونوا فيه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي لأجل أن ترحموا على تقواكم أو راجين أن ترحموا عليها.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}
{تُرْحَمُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ} أي منكم {مِن قَوْمٍ} آخرين منكم أيضًا، فالتنكير في الموضعين للتبعيض، والسخر الهزؤ كما في القاموس، وفي «الزواجر» النظر إلى المسخور منه بعين النقص، وقال القرطبي: السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه وقد تكون بالمحاكاة بالفعل والقول أو الإشارة أو الإيماء أو الضحك على كلام المسخور منه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح صورته، وقال بعض: هو ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته، واختير أنه احتقاره قولًا أو فعلًا بحضرته على الوجه المذكور، وعليه ما قيل المعنى: لا يحتقر بعض المؤمنين بعضًا. والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في قوم من بني تميم سخروا من بلال. وسلمان. وعمار. وخباب. وصهيب. وابن نهيرة. وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنهم، ولا يضر فيه اشتمالها على نهي النساء عن السخرية كما لا يضر اشتمالها على نهي الرجال عنها فيما روي أن عائشة وحفصة رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها فقالت عائشة لحفصة تشير إلى ما تجر خلفها: كأنه لسان كلب فنزلت، وما روي عن عائشة أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة فنزلت، وقيل: نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل كان يمشي بالمدينة فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه الأمة فعز ذلك عليه وشكاهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقيل غير ذلك؛ وقوله عز وجل: {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ} تعليل للنهي أو لموجبه أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرًا عند الله تعالى من الساخرين فرب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله تعالى لأبره، وجوز أن يكون المعنى لا يحتقر بعض بعضًا عسى أن يصير المحتقر اسم مفعول عزيز أو يصير المحتقر ذليلًا فينتقم منه، فهو نظير قوله:
لا تهين الفقير علك أن *** تركع يومًا والدهر قد رفعه
والقوم جماعة الرجال ولذلك قال سبحانه: {وَلاَ نِسَاء} أي ولا يسخر نساء من المؤمنات {مّن نّسَاء} منهن {عسى أَن يَكُنَّ} أي المسخورات {خَيْرًا مّنْهُنَّ} أي من الساخرات، وعلى هذا جاء قول زهير:
وما أدري وسوف أخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء
وهو إما مصدر كما في قول بعض العرب: إذا أكلت طعامًا أحببت نومًا وأبغضت قومًا أي قيامًا نعت به فشاع في جماعة الرجال، وأما اسم جمع لقائم كصوم لصائم وزور لزائر، وأطلق عليه بعضهم الجمع مريدًا به المعنى اللغوي وإلا ففعل ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات، ووجه الاختصاص بالرجال أن القيام بالأمور وظيفتهم كما قال تعالى: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} [النساء: 34] وقد يراد به الرجال والنساء تغليبًا كما قيل في قوم عاد وقوم فرعون أن المراد بهم الذكور والإناث؛ وقيل: المراد بهم الذكور أيضًا ودل عليهن بالالتزام العادي لعدم الانفكاك عادة، والنساء على ما قال الراغب وغيره وكذا النسوان والنسوة جمع المرأة من غير لفظها، وجيء بما يدل على الجمع في الموضعين دون المفرد كأن يقال: لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة مع أنه الأصل الأشمل الأعم قيل جريًا على الأغلب من وقوع السخرية في مجامع الناس فكم من متلذذ بها وكم من متألم منها فجعل ذلك نزلة تعدد الساخر والمسخور منه، وقيل: لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين الجماعة كقوله تعالى: {لا تَأْكُلُونَ الربا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] وعموم الحكم لعموم علته، و{عَسَى} في نحو هذا التكريب من كل ما أسندت فيه إلى أن والفعل قيل تامة لا تحتاج إلى خبر وأن وما بعدها في محل رفع على الفاعلية، وقيل: إنها ناقصة وسد ما بعدها مسد الجزأين وله محلان باعتبارين أو محله الرفع، والتحكم مندفع بأنه الأصل في منصوبها بناء على أنها من نواسخ المبتدأ والخبر.
وقرأ عبد الله. وأبي {عسى أَن يَكُونُواْ}. {نّسَاء عسى أَن يَكُنَّ} فعسى عليها ذات خبر على المشهور من أقوال النحاة، وفيه الأخبار عن الذات بالمصدر أو يقدر مضاف مع الاسم أو الخب، ر وقيل: هو في مثل ذلك عنى قارب وأن وما معها مفعول أو قرب وهو منصوب على إسقاط الجار {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} لا يعب بعضكم بعضًا بقول أو إشارة لأن المؤمنين كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنه عاب نفسه، فضمير {تَلْمِزُواْ} للجميع بتقدير مضاف، و{أَنفُسَكُمْ} عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين وهم المؤمنين جعل ما هو من جنسهم نزلة أنفسهم وأطلق الأنفس على الجنس استعارة كما في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] وهذا غير النهي السابق وإن كان كل منهما مخصوصًا بالمؤمنين بناء على أن السخرية احتقار الشخص مطلقًا على وجه مضحك بحضرته، واللمز التنبيه على معايبه سواء كان على مضحك أم لا؟ وسواء كان بحضرته أم لا كما قيل في تفيسره، وجعل عطفه عليه من قبيل عطف العام على الخاص لإفادة الشمول كشارب الخمر وكل فاسق مذموم، ولا يتم إلا إذا كان التنبيه المذكور احتقارًا، ومنهم يقول؛ السخرية الاحتقار واللمز التنبيه على المعايب أو تتبعها والعطف من قبيل عطف العلة على المعلول وقيل: اللمز مخصوص بما كان من السخرية على وجه الخفية كالإشارة فهو من قبيل عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة، واختار الزمخشري أن المعنى وخصوا أنفسكم أيها المؤمنون بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم، ففي الحديث:«اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» وتعقب بأنه لا دليل على الاختصاص.
وقال الطيبي: هو من دليل الخطاب لكن إن في هذا الوجه تعسفًا والوجه الآخر يعني ما تقدم أوجه لموافقته {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ} و{إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] و{وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12] وفي الكشف أخذ الاختصاص من العدول عن الأصل وهو لا يلمز بعضكم بعضًا كأنه قيل: ولا تلمزوا من هو على صفتكم من الايمان والطاعة فيكون من باب ترتب الحكم على الوصف، وتعقب قول الطيبي بأن الكلام عليه يفيد العلية والاختصاص معًا فيوافق ما سبق ويؤذن بالفرق بين السخرية واللمز وهو مطلوب في نفسه وكأنه قيل: لا تلمزوا المؤمنين لأنهم أنفسكم ولا تعسف فيه بوجه إلى آخر ما قال فليتأمل، والانصاف أن المتبادر ما تقدم، وقيل: المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به فإن فعل من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه فأنفسكم على ظاهره والتجوز في {تَلْمِزُواْ} أطلق فيه المسبب على السبب والمراد لا ترتكبوا أمرًا تعابون به، وهو بعيد عن السياق وغير مناسب لقوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُواْ} وكونه من التجوز في الإسناد إذا أسند فيه ما للمسبب إلى السبب تكلف ظاهر، وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق لا يدفع كونه مخالفًا للظاهر، وكذا كون المراد به لا تتسببوا إلى الطعن فيكم بالطعن على غيركم كما في الحديث {مِنْ} وفسر بأنه إن شتم والدي غيره شتم الغير والديه أيضًا.
وقرأ الحسن. والأعرج، وعبيد عن أبي عمرو {لا تَلْمِزُواْ} بضم الميم {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالالقاب} أي لا يدع بعضكم بعضًا باللقب، قال في القاموس: التنابز التعاير والتداعي بالألقاب ويقال نبزه ينبزه نبزًا بالفتح والسكون لقبه كنبزه والنبز بالتحريك وكذا النزب اللقب وخص عرفًا بما يكرهه الشخص من الألقاب.
وعن الرضي أن لفظ اللقب في القديم كان في الذم أشهر منه في المدح، والنبز في الذم خاصة، وظاهر تفسير التنابز بالتداعي بالألقاب اعتبار التجريد في الآية لئلا يستدرك ذكر الألقاب، ومن الغريب ما قيل. التنابز الترامي أي لا تتراموا بالألقاب ويراد به ما تقدم، والمنهي عنه هو التلقيب بما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيرًا به وذمًا له وشينًا.
قال النووي: اتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره سواء كان صفة له أو لأبيه أو لأمه أو غيرهما فقد روى أن الآية نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع فأتى يومًا وهو يقول: تفسحوا حتى انتهى إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال لرجل: تنح فلم يفعل فقال: من هذا؟ فقال الرجل: أنا فلان فقال: بل أنت ابن فلانة يريد أما كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدًا.
وأخرج البخاري. وأبو داود. والترمذي. والنسائي. وابن ماجه. وجماعة عن ابن جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالالقاب} قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدًا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنه يكرهه فنزلت {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالالقاب} وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيآت ثم تاب منها وراجع الحق فنهى الله تعالى أن يعير بما سلف من عمله، وعن ابن مسعود هو أن يقال لليهودي أو النصراني أو المجوسي إذا أسلم يا يهودي أو يا نصراني أو يا مجوسي، وعن الحسن نحوه، ولعل مأخذه ما روى أنها نزلت في صفية بنت حيي أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال لها: هلا قلت: إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأنت تعلم أن النهي عما ذكر داخل في عموم {لا تَنَابَزُواْ بالالقاب} على ما سمعت فلا يختص التنابز بقول يا يهودي ويافاسق ونحوهما، ومعنى قوله تعالى: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الايمان} بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب التنابز أن يذكروا بالفسق بعد اتصافهم بالايمان، وهو ذم على اجتماع الفسق وهو ارتكاب التنابز والايمان على معنى لا ينبغي أن يجتمعا فإن الايمان يأبى الفسق كقولهم: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة يريدون استقباح الجمع بين الصبوة وما يكون في حال الشباب من الميل إلى الجهل وكبر السن. و{الاسم} هنا عنى الذكر من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو اللؤم فلا تأبى هذه الآية حمل ما تقدم على النهي عن التنابز مطلقًا، وفيها تسميته فسوقًا، وقيل: {بَعْدَ الايمان} أي بدله كما في قولك للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة، وفيه تغليظ يجعل التنابز فسقًا مخرجًا عن الايمان، وهذا خلاف الظاهر. وذكر الزمخشري له مبنى على مذهبه من أن مرتكب الكبيرة فاسق غير مؤمن حقيقة، وقيل: معنى النهي السابق لا ينسبن أحدكم غيره إلى فسق كان فيه بعد اتصافه بضده، ومعنى هذا بئس تشهير الناس وذكرهم بفسق كانوا فيه بعدما اتصفوا بضده، فيكون الكلام نهيًا عن أن يقال ليهودي أسلم يا يهودي أو نحو ذلك، والأول أظهر لفظًا وسياقًا ومبالغة، والجملة على كل متعلقة بالنهي عن التنابز على ما هو الظاهر، وقيل: هي على الوجه السابق متعلقة بقوله تعالى: {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} أو بجميع ما تقدم من النهي، وعلى هذا اقتصر ابن حجر في «الزواجر».
ويستثنى من النهي الأخير دعاء الرجل الرجل بلقب قبيح في نفسه لا على قصد الاستخفاف به والإيذاء له كما إذا دعت له الضرورة لتوقف معرفته كقول المحدثين: سليمان الأعمش وواصل الأحدب، وما نقل عن ابن مسعود أنه قال لعلقمة: تقول أنت ذلك يا أعور ظاهر في أن الاستثناء لا يتوقف على دعاء الضرورة ضرورة أنه لا ضرورة في حال مخاطبته علقمة لقوله يا أعور، ولعل الشهرة مع عدم التأذي وعدم قصد الاستخفاف كافية في الجواز، ويقال ما كان من ابن مسعود من ذلك، والأولى أن يقال في الرواية عمن اشتهر بذلك كسليمان المتقدم روى عن سلميان الذي يقال له الأعمش، هذا وغوير بين صيغتي {تَلْمِزُواْ} لأن الملموز قد لا يقدر في الحال على عيب يلمز به لامزه فحيتاج إلى تتبع أحواله حتى يظفر ببعض عيوبه بخلاف النبز فإن من لقب بما يكره قادر على تلقيب الآخر بنظير ذلك حالًا فوقع التفاعل كذا في «الزواجر»، وقيل: قيل {وَلاَ تَنَابَزُواْ} لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين القوم، ويعلم من الآية أن التلقيب ليس محرمًا على الإطلاق بل المحرم ما كان بلقب السوء، وقد صرحوا بأن التلقيب بالألقاب الحسنة مما لا خلاف في جوازه، وقد لقب أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالعتيق لقوله عليه الصلاة والسلام له: «أنت عتيق الله من النار» وعمر رضي الله تعالى عنه بالفاروق لظهور الإسلام يوم إسلامه، وحمزة رضي الله تعالى عنه بأسد الله لما أن إسلامه كان حمية فاعتز الإسلام به، وخالد بسيف الله لقوله صلى الله عليه وسلم: «نعم عبد الله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله» إلى غير ذلك من الألقاب الحسنة، وألقاب علي كرم الله تعالى وجهه أشهر من أن تذكر، وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير، ولا فرق بين اللقب والكنية في أن الدعاء بالقبيح المكروه منها حرام، ورا يشعر به قول الراغب: اللقب اسم يسمى به الإنسان سوى اسمه الأول ويراعى فيه المعنى بخلاف العلم، ولذلك قال الشاعر:
وقلما أبصرت عيناك ذا لقب *** إلا ومعناه إن فتشت في لقبه
بدخولها في مفهومه لكن الشائع غير ذلك، وفي الحديث {وَلاَ أولادكم} قال عطاء: مخافة الألقاب وقال عمر رضي الله تعالى عنه: أشيعوا الكنى فإنها سنة، ولنا في الكنى كلام نفيس ذكرناه في الطراز المذهب فمن أراده فليرجع إليه {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عما نهى عنه من التنابز أو من الأمور الثلاثة السابقة أو مطلقًا ويدخل ما ذكر {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب، والأفراد أولًا والجمع ثانيًا مراعاة للفظ ومراعاة للمعنى.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}
{الظالمون ياأيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيرًا مّنَ الظن} أي تباعدوا منه، وأصل اجتنبه كان على جانب منه ثم شاع في التباعد اللازم له، وتنكيرًا {كَثِيرًا} ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يباح اتباعه كالظن في الأمور المعايشة، ومنه ما يجب كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات كالواجبات الثابتة بغير دليل قطعي وحسن الظن بالله عز وجل، ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات وحيث يخالفوا قاطع وظن السوء بالمؤمنين، ففي الحديث: «أن الله تعالى حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء» وعن عائشة مرفوعًا «من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه الظن إن الله تعالى يقول: {اجتنبوا كَثِيرًا مّنَ الظن}» ويشترط في حرمة هذا أن يكون المظنون به ممن شوهد منه التستر والصلاح وأونست منه الأمانة، وأما من يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث كالدخول والخروج إلى حانات الخمر وصحبة الغواني الفاجرات وإدمان النظر إلى المرد فلا يحرم ظن السوء فيه وإن كان الظان لم يره يشرب الخمر ولا يزني ولايعبث بالشباب. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن المسيب قال: كتب إلى بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًا وأنت تجد لها في الخير محملًا، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه، ومن كتم سره كانت الخيرة في يده، وما كافيت من عصى الله تعالى فيك ثل أن تطيع الله تعالى فيه، وعليك بإخوان الصدق فكن في اكتسابهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة عند عظيم البلاء، ولا تهاون بالحلف فيهينك الله تعالى، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون؛ ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه، وعليك بالصدق وإن قتلك، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله تعالى، وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب.
وعن الحسن كنا في زمان الظن بالناس حرام وأنت اليوم في زمان اعلم واسكت وظن بالناس ما شئت، واعلم أن ظن السوء إن كان اختياريًا فالأمر واضح، وإذا لم يكن اختياريًا فالمنهى عنه العمل وجبه من احتقار المظنون به وتنقيصه وذكره بما ظن فيه، وقد قيل نظير ذلك في الحسد على تقدير كونه غير اختياري، ولا يضر العمل وجبه بالنسبة إلى الظان نفسه كما إذا ظن بشخص أنه ريد به سوءًا فتحفظ من أن يلحقه منه أذى على وجه لا يلحق ذلك الشخص به نقص، وهو محمل خبر:«إن من الحزم سوء الظن» وخبر الطبراني «احترسوا من الناس بسوء الظن»، وقيل: المنهي عنه الاسترسال معه وترك إزالته بنحو تأويل سببه من خبر ونحوه، وإلا فالأمر الغير الاختياري نفسه لا يكون مورد التكليف، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لازمات أمتي الطيرة والحسد وسوء الظن فقال رجل: ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال: إذا حسدت فاستغفر الله وإذا ظنن فلا تحقق وإذا تطيرت فامض» أخرجه الطبراني عن حارثة بن النعمان {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} تعليل بالأمر بالاجتناب أو لموجبه بطريق الاستئناف التحقيقي، والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه، ومنه قيل لعقوبته الأثام فعال منه كالنكال، قال الشاعر:
لقد فعلت هذي النوى بي فعلة *** أصاب النوى قبل الممات أثامها
والهمزة فيه على ما قال الزمخشري بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها لكونه يضربها في الجملة وإن لم يحبطها قطعًا: وتعقب بأن الهمزة ملتزمة في تصاريفه تقول: إثم يأثم فهو آثم وهذا إثم وتلك آثام، وأن إثم من باب علم، ووثم من باب ضرب، وأنه ذكره في باب الهمزة في الأساس، والواوي متعد وهذا لازم.
{وَلاَ تَجَسَّسُواْ} ولا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم وتستكشفوا عما ستروه، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كاللمس فإن من يطلب الشيء يجسه ويلمسه فأريد به ما يلزمه، واستعمال التفعل للمبالغة. وقرأ الحسن. وأبو رجاء. وابن سيرين {وَلاَ} بالحاء من الحسن الذي هو أثر الجس وغايته، ولهذا يقال لمشاعر الإنسان الحواس والجواس بالحاء والجيم، وقيل التجسس والتحسس متحدان ومعناهما معرفة الأخبار، وقيل: التجسس بالجيم تتبع الظواهر بالحاء تتبع البواطن، وقيل: الأول أن تفحص بغيرك والثاني أن تفحص بنفسك، وقيل: الأول في الشر والثاني في الخير، وهذا بفرض صحته غير مراد هنا والذي عليه الجمهور أن المراد على القراءتين النهي عن تتبع العورات مطلقًا وعدوه من الكبائر.
أخرج أبو داود. وابن المنذر. وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله تعالى في قعر بيته» وفي رواية البيهقي عن البراء بن عازب أنه صلى الله عليه وسلم نادى بذلك حتى أسمع العواتق في الخدر. وأخرج أبو داود. وجماعة عن زيد بن وهب قلنا لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة بن معيط تقطر لحيته خمرًا؟ فقال ابن مسعود: قدنهينا عن التجسس فإن ظهر لنا شيء أخذنا به.
وقد يحمل مزيد حب النهي عن المنكر على التجسس وينسى النهي فيعذر مرتكبه كما وقع ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. أخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ثور الكندي أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعس بالمدينة فسمع صوت رجل في بيت يتغني فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال: يا عدو الله أظنن أن الله تعالى يسترك وأنت على معصية؟ فقال: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل علي إن كنت عصيت الله تعالى واحدة فقد عصيت الله تعالى في ثلاث قال سبحانه: {إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ} وقد تجسست وقال الله تعالى: {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها} [البقرة: 189] وقد تسورت وقال جل شأنه: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] ودخلت علي بغير إذن قال عمر رضي الله تعالى عنه: فهل عندكم من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم فعفا عنه وخرج وتركه. وفي رواية سعيد بن منصور عن الحسن أنه قال رجل لعمر رضي الله تعالى عنه: إن فلانًا لا يصحوا فقال: انظر الساعة التي يضع فيها شرابه فأتني فأتاه فقال: قد وضع شرابه فانطلقا حتى استأذنا عليه فعزل شرابه ثم دخلا فقال عمر: والله إني لأجد ريح شراب يا فلان أنت بهذا فقال: يا ابن الخطاب وأنت بهذا لم ينهك الله تعالى أن تتجسس؟ فعرفها عمر فانطلق وتركه، وذكر بعضهم أن انزجار شربة الخمر ونحوهم إذا توقف على التسور عليهم جاز احتجاجًا بفعل عمر رضي الله تعالى عنه السابق وفيه نظر، وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يخالف ذلك.
أخرج عبد الرزاق. وعبد بن حميد والخرائطي أيضًا عن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر رضي الله تعالى عنه ليلة المدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتبعة ولغط فقال عمر: وأخذ بيد عبد الرحمن أتدري بيت من هذا؟ هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف الآن شرب قال: أرى أن قد أتينا ما نهى الله تعالى عنه قال الله تعالى: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} فقد تجسسنا فانصرف عمر رضي الله تعالى عنه عنهم وتركهم، ولعل القصة إن صحت غير واحدة، ومن التجسس على ما قال الأوزاعي الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون فهو حرام أيضًا.
{وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} أي لا يذكر بعضكم بعضًا بما يكره في غيبته فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت لو كان في أخي ما أقول قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته».
رواه مسلم. وأبو داود. والترمذي. والنسائي وغيرهم.
والمراد بالذكر الذكر صريحًا أو كناية ويدخل في الأخير الرمز والإشارة ونحوهما إذاأدت مؤدى النطق فإن علة النهي عن الغيبة الإيذاء بتفهيم الغير نقصان المغتاب وهو موجود حيث أفهمت الغير ما يكرهه المغتاب بأي وجه كان من طرق الأفهام، وهي بالفعل كان تمشي مشية أعظم الأنواع كما قاله الغزالي، والمراد بما يكره أعم من أن يكون في دينه أو دنياه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو مملوكه أو خادمه أو لباسه أو غير ذلك مما يتعلق به، وخصه القفال بالصفات التي لا تذم شرعًا فذكر الشخص بما يكره مما يذم شرعًا ليس بغيبة عنده ولا يحرم، واحتج على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» وما ذكره لا يعول، عليه والحديث ضعيف وقال أحمد منكر، وقال البيهقي: ليس بشيء ولو صح فهو محمول على فاجر معلن بفجوره. والمراد بقولنا: غيبته غيبته عن ذلك الذكر سواء كان حاضرًا في مجلس الذكر أولًا، وفي الزواجر لا فرق في الغيبة بني أن تكون في غيبة المغتاب أو بحضرته هو المعتمد، وقد يقال: شمول الغيبة للذكر بالحضور على نحو شمول سجود السهود لما كان عن ترك ما يسجد له عمدًا {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} تميل لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعًا وعقلًا وشرعًا مع مبالغات من فنون شتى، الاستفهام التقريري من حيث أنه لا يقع إلا في كلام هو مسلم عند كل سامع حقيقة أو ادعاء، وإسناد الفعل إلى أحد إيذانًا بأن أحدًا من الأحديثن لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وجعل المأكول أخًا للآكل وميتًا، وتعقيب ذلك بقوله تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} حملًا على الإقرار وتحقيقًا لعدم محبة ذلك أو لمحبته التي لا ينبغي مثلها، وفي المثل السائر كنى عن الغيبة بأكل الإنسان للحم مثله لأنها ذكر المثالب وتمزيق الإعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه في استكراه العقل والشرع له، وجعله ميتًا لأن المغتاب لا يشعر بغيبته، ووصله بالمحبة لما جبلت عليه النفوس من الميل إليها مع العلم بقبحها، وقال أبو زيد السهيلي: ضرب المثل لأخذ العرض بأكل اللحم لأن اللحم ستر على العظم والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه وكأنه أولى مما في المثل، والفاء في {فَكَرِهْتُمُوهُ} فصيحة في جواب شرط مقدور ويقدر معه قد أي أن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته، والجزائية باعتبار التبين، والضمير المنصوب للأكل وقيل: للحم، وقيل: للميت وليس بذاك، وجوز كونه للاغتياب المفهوم مما قبل، والمعنى فاكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل، وعبر بالماضي للمبالغة، وإذا أول بما ذكر يكون إنشاء غير محتاج {لتقدير} قد، وانتصاب ميتًا على الحال من اللحم أو الأخ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والحال في مثل ذلك جائز خلافًا لأبي حيان.
وقرأ أبو سعيد الخدري. والجحدري. وأبو حيوة {مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} بضم الكاف وشد الراء، ورواها الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {واتقوا الله} قيل عطف على محذوف كأنه قيل: امتثلوا ما قيل لكم واتقوا الله.
وقال الفراء: التقدير إن صح ذلك فقد كرهتموه فلا تفعلوه واتقوا الله فهو عطف على النهي المقدر، وقال أبو علي الفارسي. لما قيل لهم {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} إلخ كان لجواب بلا متعينًا فكأنهم قالوا: لا نحب فقيل لهم {فَكَرِهْتُمُوهُ} ويقدر فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظيره واتقوا الله فيكون عطفًا على فاكرهوا المقدر، وقيل: هو عطف على فكرهتموه بناء على أنه خبر لفظًا أمر معنى كما أشير إليه سابقًا ولا يخفى الأولى من ذلك وقوله سبحانه: {إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} تعليل للأمر أي لأنه تعالى تواب رحيم لمن اتقى واجتنب ما نهى عنه وتاب مما فرط منه، وتواب أي مبالغ في قبول التوبة والمبالغة إما باعتبار الكيف إذ يجعل سبحانه التائب كمن لم يذنب أو باعتبار الكم لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم.
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن سلمان الفاسي رضي الله تعالى عنه كان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأنه نام يومًا فطلبه صاحباه فلم يجداه فضرباه الخباء وقالا: ما يريد سلمان شيئًا غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود وخبار مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لهما إدامًا فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك قال: ما يصنع أصحابك بالادام؟ قد ائتدموا فرجع رضي الله تعالى عنه فخبرهما فانطلقا فأتياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعامًا منذ نزلنا قال: إنكما قد ائتدمتما بسلمان فنزلت. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ فذكر رجلان أكله ورقاده فنزلت.
وأخرج الضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضًا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهييء لهما طعامًا فقالا: إن هذا لنئوم فأيقظاه فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له أن أبا بكر وعمر يقرآنك السلام ويستأدمانك فقال: إنهما ائتدما فجاءا فقالا: يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا قال بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما فقالا: استغفر لنا يا رسول الله قال: مراه فليستغفر لكما وذا خبر صحيح ولا طعن فيه على الشيخين سواء كان ما وقع منهما قبل النزول أو بعده حيث لم يظنا بناء على حسن الظن فيهما إن تلك الكلمة مما يكرهها ذلك الرجل: هذا والآية دالة على حرمة الغيبة.
وقد نقل القرطبي. وغيره الإجماع على أنها من الكبائر، وعن الغزالي وصاحب العدة أنهما صرحا بأنها من الصغائر وهو عجيب منهما لكثرة ما يدل على أنها من الكبائر، وقصارى ما قيل في وجه القول بأنها صغيرة أنه لو لم تكن كذلك يلزم فسق الناس كلهم إلا الفذ النادر منهم وهذا حرج عظيم. وتعقب بأن فشوا المعصية وارتكاب جميع الناس لها فضلًا عن الأكثر لا يوجب أن تكون صغيرة، وهذا الذي دل عليه الكلام من ارتكاب أكثر الناس لها لم يكن قبل. على أن الإصرار عليها قريب منها في كثرة الفشو في الناس وهو كبيرة بالاجماع ويلزم عليه الحرج العظيم وإن لم يكن في عظم الحرج السابق، مع أن هذا الدليل لا يقاوم تلك الدلائل الكثيرة، ولعل الأولى في الاستدلال على ذلك ما رواه أحمد. وغيره بسند صحيح عن أبي بكرة قال «بينما أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي ورجل عن يساري فإذا نحن بقبرين أمامنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير وبكى إلى أن قال: وما يعذبان إلا في الغيبة والبول» ولا يتم أيضًا، فقد قال ابن الأثير: المعنى وما يعذبان في أمر كان يكبر عليهما ويشق فعله لو أراداه لا أنه في نفسه غير كبير، وكيف لا يكون كبيرًا وهما يعذبان فيه، فالحق أنها من الكبائر. نعم لا يبعد أن يكون منها ما هو من الصغائر كالغيبة التي لا يتأذى بها كثيرًا نحو عيب الملبوس والدابة، ومنها ما لا ينبغي أن يشك في أنه من أكبر الكبائر كغيبة الأولياء والعلماء بألفاظ الفسق والفجور ونحوها من الألفاظ الشديدة الإيذاء، والأشبه أن يكون حكم السكوت عليها مع القدرة على دفعها حكمها، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة بشروطها فيقلع ويندم خوفًا من الله تعالى ليخرج من حقه ثم يستحل المغتاب خوفًا ليحله فيخرج عن مظلمته، وقال الحسن: يكفيه الاستغفار عن الاستحلال، واحتج بخبر «كفارة من اغتبته أن تستغفر له»، وأفتى الخياطي بأنها إذا لم تبلغ المغتاب كفاه الندم والاستغفار، وجزم ابن الصباغ بذلك وقال: نعم إذا كان تنقصه عند قوم رجع إليهم وأعلمهم أن ذلك لم يكن حقيقة وتبعهما كثيرون منهم النووي، واختاره ابن الصلاح في فتاويه وغيره، وقال الزركشي: هو المختار وحكاه ابن عبد البر عن ابن المبارك وأنه ناظر سفيان فيه، وما يستدل به على لزوم التحليل محمول على أنه أمر بالأفضل أو بما يمحو أثر الذنب بالكلية على الفور، وما ذكر في غير الغائب والميت أما فيهما فينبغي أن يكثر لهما الاستغفار، ولا اعتبار بتحليل الورثة على ما صرح به الخياطي وغيره، وكذا الصبي والمجنون بناء على الصحيح من القول بحرمة غيبتهما.
قال في الخادم: الوجه أن يقال يبقى حق مطالبتهما إلى يوم القيامة أي إن تعذر الاستحلال والتحليل في الدنيا بأن مات الصبي صبيًا والمجنون مجنونًا ويسقط حق الله تعالى بالندم، وهل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة أم لا؟ وجهان، والذي رجحه في الاذكار أنه لابد من معرفتها لأن الإنسان قد يسمح عن غيبة دون غيبة، وكلام الحليمي. وغيره يقتضي الجزم بالصحة لأن من سمح بالعفو من غير كشف فقد وطن نفسه عليه مهما كانت الغيبة، ويندب لمن سئل التحليل أن يحلل ولا يلزمه لأن ذلك تبرع منه وفضل، وكان جمع من السلف واقتدى بهم والدي عليه الرحمة والرضوان يمتنعون من التحليل مخافة التهاون بأمر الغيبة، ويؤيد الأول خبر «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال: إني تصدقت بعرضي على الناس».
ومعناه لا أطلب مظلمة منهم ولا أخاصمهم لا أن الغيبة تصير حلالًا لأن فيها حقًا لله تعالى ولأنه عفو وإباحة للشيء قبل وجوبه، وسئل الغزالي عن غيبة الكافر فقال: هي في حق المسلم محذورة لثلاث علل الإيذاء. وتنقيص خلق الله تعالى. وتضييع الوقت بما لا يعني، والأولى تقتضي التحريم، والثانية الكراهة، والثالثة خلاف الأولى. وأما الذمي فكالمسلم فيما يرجع إلى المنع عن الإيذاء لأن الشرع عصم عرضه ودمه وماله.
وقد روى ابن حبان في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سمع يهوديًا أو نصرانيًا فله النار» ومعنى سمعه أسمعه ما يؤذيه ولا كلام بعد هذا في الحرمة. وأما الحربي فغيبته ليست بحرام على الأولى ونكره على الثانية وخلاف الأولى على الثالثة، وأما المبتدع فإن كفر فكالحربي وإلا فكالمسلم؛ وأما ذكره ببدعته فليس مكروهًا.
وقال ابن المنذر في قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الغيبة: «ذكرك أخاك بما يكره» فيه دليل على أن من ليس أخالك من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل ومن أخرجته بدعته إلى غير دين الإسلام لا غيبة له ويجري نحوه في الآية، والوجه تحريم غيبة الذمي كما تقرر وهو وإن لم يعلم من الآية ولا من الخبر المذكور معلوم بدليل آخر ولا معارضة بين ما ذكر وذلك الدليل كما لا يخفى، وقد تجب الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها وتنحصر في ستة أسباب.
الأول: التظلم فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن له قدرة على إزالة ظلمه أو تخفيفه. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته. الثالث: الاستفتاء فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا فهل يجوز له أو ما طريق تحصيل حقي أو نحو ذلك؛ والأفضل أن يبهمه.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمتصدين لإفتاء أو إقراء مع عدم أهلية فتجوز إجماعًا بل تحب، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد تزوج أو مخالطة لغيره في أمر ديني أو دنيوي ويقتصر على ما يكفي فإن كفى نحو لا يصلح لك فذاك وإن احتاج إلى ذكر عيب ذكره أو عيبين فكذلك وهكذا ولا يجوز الزيادة على ما يكفي، ومن ذلك أن يعلم من ذي ولاية قادحًا فيها كفسق أو تغفل فيجب ذكر ذلك لمن له قدرة على عزله وتولية غيره الخالي من ذلك أو على نصحه وحثه للاستقامة، والخامس: أن يتجاهر بفسقه كالمكاسين وشربة الخمر ظاهرًا فيجوز ذكرهم بما تجاهروا فيه دون غيره إلا أن يكون له سبب آخر مما مر.
السادس: للتعريف بنحو لقب كالأعور. والأعمش. فيجوز وإن أمكن تعريفه بغيره. نعم الأولى ذلك إن سهل ويقصد التعريف لا التنقيص، وأكثر هذه الستة مجمع عليه ويدل لها من السنة أحاديث صحيحة مذكورة في محلها كالأحاديث الدالة على قبح الغيبة وعظم آثامها وأكثر الناس بها مولعون ويقولون: هي صابون القلوب وأن لها حلاوة كحلاوة التمر وضراوة كضراوة الخمر وهي في الحقيقة كما قال ابن عباس. وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم: الغيبة أدام كلاب الناس نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى.
وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية أعني قوله تعالى: {ياأيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيرًا مّنَ الظن} إلخ كما قال أبو حيان وفصله بقوله: جاء الأمر أولًا باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم وهو الظن ثم نهى ثانيًا عن طلب تحقيق ذلك الظن ليصير علمًا بقوله سبحانه: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} ثم نهى ثالثًا عن ذكر ذلك إذا علم فهذه أمور ثلاثة مترتبة ظن فعلم بالتجسس فاغتياب، وقال ابن حجر عليه الرحمة: إنه تعالى ختم كلًا من الآيتين بذكر التوبة رحمة بعباده وتعطفًا عليهم لكن لما بدئت الأولى بالنهي ختمت بالنفي في {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} [الحجرات: 11] لتقاربهما ولما بدئت الثانية بالأمر في {اجتنبوا} ختمت به في {فاتقوا الله} إلى إلخ وكان حكمة ذكر التهديد الشديد في الأولى فقط بقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} إلخ أن ما فيها أفحش لأنه إيذاء في الحضرة بالخسرية أو اللمز أو النبز بخلافه في الآية الثانية فإنه أمر خفي إذ كل من الظن والتجسس والغيبة يقتضي الإخفاء وعدم العلم به غالبًا انتهى فلا تغفل.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6